تفسير آيات الصيام من سورة البقرة 183-185

بسم الله الرحمن الرحيم

تيسير الكريم المنان في تفسير كلام الرحمن ( السعدي )

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ "لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183) أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (184) شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (185)."سورة البقرة

يخبر تعالى بما منَّ به على عباده, بأنه فرض عليهم الصيام, كما فرضه على الأمم السابقة, لأنه من الشرائع والأوامر التي هي مصلحة للخلق في كل زمان.
وفيه تنشيط لهذه الأمة, بأنه ينبغي لكم أن تنافسوا غيركم في تكميل الأعمال, والمسارعة إلى صالح الخصال, وأنه ليس من الأمور الثقيلة, التي اختصّيْتم بها.
ثم ذكر تعالى حكمته في مشروعية الصيام فقال: ( لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) فإن الصيام من أكبر أسباب التقوى, لأن فيه امتثال أمر الله واجتناب نهيه.
فمما اشتمل عليه من التقوى:
أن الصائم يترك ما حرم الله عليه من الأكل والشرب والجماع  ونحوها,التي تميل إليها نفسه, متقربا بذلك إلى الله, راجيا بتركها, ثوابه، فهذا من التقوى.
ومنها: أن الصائم يدرب نفسه على مراقبة الله تعالى, فيترك ما تهوى نفسه, مع قدرته عليه, لعلمه باطلاع الله عليه، ومنها: أن الصيام يضيق مجاري الشيطان, فإنه يجري من ابن آدم مجرى الدم, فبالصيام, يضعف نفوذه, وتقل منه المعاصي، 
ومنها: أن الصائم في الغالب, تكثر طاعته, والطاعات من خصال التقوى، ومنها: أن الغني إذا ذاق ألم الجوع, أوجب له ذلك, مواساة الفقراء المعدمين, وهذا من خصال التقوى.
ولما ذكر أنه فرض عليهم الصيام, أخبر أنه أيام معدودات, أي: قليلة في غاية السهولة.
ثم سهل تسهيلا آخر. فقال: ( فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ) وذلك للمشقة, في الغالب, رخص الله لهما, في الفطر.
ولما كان لا بد من حصول مصلحة الصيام لكل مؤمن, أمرهما أن يقضياه في أيام أخر إذا زال المرض, وانقضى السفر, وحصلت الراحة.
وفي قوله: ( فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ ) فيه دليل على أنه يقضي عدد أيام رمضان, كاملا كان, أو ناقصا, وعلى أنه يجوز أن يقضي أياما قصيرة باردة, عن أيام طويلة حارة كالعكس.
وقوله: ( وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ ) أي: يطيقون الصيام ( فِدْيَةٌ ) عن كل يوم يفطرونه ( طَعَامُ مِسْكِينٍ ) وهذا في ابتداء فرض الصيام, لما كانوا غير معتادين للصيام, وكان فرضه حتما, فيه مشقة عليهم, درجهم الرب الحكيم, بأسهل طريق، وخيَّر المطيق للصوم بين أن يصوم, وهو أفضل, أو يطعم، ولهذا قال: ( وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ ) .
ثم بعد ذلك, جعل الصيام حتما على المطيق وغير المطيق, يفطر ويقضيه في أيام أخر [وقيل: ( وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ ) أي: يتكلفونه، ويشق عليهم مشقة غير محتملة, كالشيخ الكبير, فدية عن كل يوم مسكين وهذا هو الصحيح] .
( شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزلَ فِيهِ الْقُرْآنُ ) أي: الصوم المفروض عليكم, هو شهر رمضان, الشهر العظيم, الذي قد حصل لكم فيه من الله الفضل العظيم، وهو القرآن الكريم, المشتمل على الهداية لمصالحكم الدينية والدنيوية, وتبيين الحق بأوضح بيان, والفرقان بين الحق والباطل, والهدى والضلال, وأهل السعادة وأهل الشقاوة.
فحقيق بشهر, هذا فضله, وهذا إحسان الله عليكم فيه, أن يكون موسما للعباد مفروضا فيه الصيام.
فلما قرره, وبين فضيلته, وحكمة الله تعالى في تخصيصه قال: ( فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ) هذا فيه تعيين الصيام على القادر الصحيح الحاضر.
ولما كان النسخ للتخيير, بين الصيام والفداء خاصة, أعاد الرخصة للمريض والمسافر, لئلا يتوهم أن الرخصة أيضا منسوخة [فقال] ( يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ) أي: يريد الله تعالى أن ييسر عليكم الطرق الموصلة إلى رضوانه أعظم تيسير, ويسهلها أشد تسهيل، ولهذا كان جميع ما أمر الله به عباده في غاية <> السهولة في أصله.
وإذا حصلت بعض العوارض الموجبة لثقله, سهَّله تسهيلا آخر, إما بإسقاطه, أو تخفيفه بأنواع التخفيفات.
وهذه جملة لا يمكن تفصيلها, لأن تفاصيلها, جميع الشرعيات, ويدخل فيها جميع الرخص والتخفيفات.
( وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ ) وهذا - والله أعلم - لئلا يتوهم متوهم, أن صيام رمضان, يحصل المقصود منه ببعضه, دفع هذا الوهم بالأمر بتكميل عدته، ويشكر الله [تعالى] عند إتمامه على توفيقه وتسهيله وتبيينه لعباده, وبالتكبير عند انقضائه, ويدخل في ذلك التكبير عند رؤية هلال شوال إلى فراغ خطبة العيد.

عمدة التفسير تحقيق أحمد شاكر
"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183) أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (184) شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (185)."

يقول تعالى مخاطباً للمؤمنين من هذه الأمة، وآمراً لهم بالصيام وهو: الإمساك عن الطعام والشراب والوقاع بنية خالصة لله -عز وجل-، لما فيه من زكاة النفوس، وطهارتها، وتنقيتها من الأخلاط الرديئة، والأخلاق الرذيلة، وذكر أنه كما أوجبه عليهم فقد أوجبه على من كان قبلهم، فلهم فيه أسوة.
وليجتهد هؤلاء في أداء هذا الفرض أكمل مما فعله أولئك، كما قال تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَآ آتَاكُم فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ} [(48) سورة المائدة] الآية.
ولهذا قال هاهنا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [(183) سورة البقرة]؛ لأن الصوم فيه تزكية للبدن، وتضييق لمسالك الشيطان، ولهذا ثبت في الصحيحين :
عَنْ عَبْدِاللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه : قَالَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ:يا معشر الشباب ! من استطاع منكم الباءة فليتزوج . فإنه أغض للبصر ، وأحصن للفرج . ومن لم يستطع فعليه بالصوم  فإنه له وجاء." متفق عليه

"ثم بين مقدار الصوم، وأنه في أيام معدودات؛ لئلا يشق على النفوس فتضعف عن حمله وأدائه."
وقد كان هذا في ابتداء الإسلام يصومون من كل شهر ثلاثة أيام، ثم نسخ ذلك بصوم شهر رمضان، كما سيأتي بيانه. وقد رُوي أن الصيام كان أولا كما كان عليه الأمم قبلنا، من كل شهر ثلاثة أيام -عن معاذ، وابن مسعود، وابن عباس وغيرهم .
عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: صيام رمضان كتبه الله على الأمم قبلكم
قال عنه الإمام أحمد شاكر رجاله رجال الصحيح, وقال ابن حجر في فتح الباري اسناده فيه مجهول وله شاهد

ثم بين حكم الصيام على ما كان عليه الأمر في ابتداء الإسلام، فقال: ( فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ) أي: المريض والمسافر لا يصومان في حال المرض والسفر؛ لما في ذلك من المشقة عليهما، بل يفطران ويقضيان بعدة ذلك من أيام أخر. وأما الصحيح المقيم الذي يُطيق الصيام، فقد كان مخيَّرًا بين الصيام وبين الإطعام، إن شاء صام، وإن شاء أفطر، وأطعم عن كل يوم مسكينا، فإن أطعم أكثر من مسكين عن كل يوم، فهو خير، وإن صام فهو أفضل من الإطعام، قاله ابن مسعود، وابن عباس، ومجاهد، وغيرهم من السلف؛ ولهذا قال تعالى: ( وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ )

وروى الإمام أحمد: عن معاذ بن جبل، رضي الله عنه، قال: أحيلت الصلاة ثلاثة أحوال، وأحيل الصيام ثلاثة أحوال... وأما أحوال الصيام فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم المدينة، فجعل يصومُ من كل شهر ثلاثة أيام، وصام عاشوراء، ثم إن الله فرض عليه الصيام، وأنـزل الله تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قبْلِكُم) .

إلى قوله: ( وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ ) فكان مَنْ شاء صام، ومن شاء أطعم مسكينًا، فأجزأ ذلك عنه. ثم إن الله عز وجل أنـزل الآية الأخرى: " شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ " إلى قوله: " فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ " فأثبت اللهُ صيامَه على المقيم الصحيح ورخَّصَ فيه للمريض والمسافر، وثبت الإطعامُ للكبير الذي لا يستطيع الصيام، فهذان حالان قال: وكانوا يأكلون ويشربون ويأتون النساء ما لم يناموا، فإذا ناموا امتنعوا، ثم إن رجلا من الأنصار يقال له: صرمة، كان يعمل صائمًا حتى أمسى، فجاء إلى أهله فصلى العشاء، ثم نام فلم يأكل ولم يشرب، حتى أصبح فأصبح صائما، فرآه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد جهد جهدًا شديدًا، فقال: ما لي أراك قد جَهِدْت جهدًا شديدا؟ قال: يا رسول الله، إني عملت أمس فجئتُ حين جئتُ فألقيتُ نفسي فنمت فأصبحت حين أصبحت صائمًا. قال: وكان عمر قد أصاب من النساء بعد ما نام، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له، فأنـزل الله عز وجل: "أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ " إلى قوله: "ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ "
[أشارالإمام أحمد شاكر في المقدمة إلى صحته في عمدة التفسير ] 

"وقد أخرج البخاري ومسلم عن عائشة -رضي الله عنها- أنها قالت: "كان عاشوراء يصام، فلما نزل فرْض رمضان كان من شاء صام، ومن شاء أفطر".
وروى البخاري عن ابن عمر وابن مسعود -رضي الله تعالى عنهم- مثله."

 

"وقوله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} [(184) سورة البقرة]،
"كما قال معاذ -رضي الله تعالى عنه-: كان في ابتداء الأمر من شاء صام ومن شاء أفطر وأطعم عن كل يوم مسكيناً.
وهكذا روى البخاري عن سلمة بن الأكوع -رضي الله تعالى عنه- أنه قال لما نزلت: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} [(184) سورة البقرة]، كان من أراد أن يفطر يفتدي، حتى نزلت الآية التي بعدها فنسختها.
وروي أيضاً عن ابن عمر -رضي الله تعالى عنهما- قال: هي منسوخة.
قال عبد الله -رضي الله تعالى عنه-(هو ابن مسعود ) " وعلى الذين يطيقونه" أي: يتجشمونه,
"قال عبد الله: فكان من شاء صام، ومن شاء أفطر وأطعم مسكيناً.
{فَمَن تَطَوَّعَ} يقول: أطعم مسكيناً آخر.
{فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ} [(184) سورة البقرة].
"فكانوا كذلك حتى نسختها {فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ}
وقال البخاري أيضًا: عن ابن عباس ( وعلى الذين يُطَوَّقُونه فدية طعام مسكين ) . قال ابن عباس: ليست منسوخة، هو للشيخ الكبير والمرأة الكبيرة لا يستطيعان أن يصوما، فيطعمان مكان كل يوم مسكينًا .
وروى أبو بكر ابن مَرْدُويه: عن ابن أبي ليلى، قال: دخلت على عطاء في رمضان، وهو يأكل، فقال: قال ابن عباس: نـزلت هذه الآية: ( وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ ) فكان من شاء صام ومن شاء أفطر وأطعم مسكينًا، ثم نـزلت هذه الآية فنسخت الأولى، إلا الكبير الفاني إن شاء أطعم عن كل يوم مسكينًا وأفطر. فحاصل الأمر أن النسخ ثابت في حق الصحيح المقيم بإيجاب الصيام عليه، بقوله: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وأما الشيخ الفاني [الهرم] الذي لا يستطيع الصيام فله أن يفطر ولا قضاء عليه، لأنه ليست له حال يصير إليها يتمكن فيها من القضاء، ولكن هل يجب عليه [إذا أفطر] أن يطعم عن كل يوم مسكينًا إذا كان ذا جِدة؟ فيه قولان للعلماء، أحدهما: لا يجب عليه إطعام؛ لأنه ضعيف عنه لسنّه، فلم يجب عليه فدية كالصبي؛ لأن الله لا يكلف نفسًا إلا وسعها، وهو أحد قولي الشافعي. والثاني -وهو الصحيح، وعليه أكثر العلماء -: أنه يجب عليه فدية عن كل يوم، كما فسره ابن عباس وغيره من السلف على قراءة من قرأ: ( وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ ) أي: يتجشمونه، كما قاله ابن مسعود وغيره، وهو اختيار البخاري فإنه قال: وأما الشيخ الكبير إذا لم يطق الصيام، فقد أطعم أنس -بعد أن كبر عامًا أو عامين -كل يوم مسكينًا خبزًا ولحما، وأفطر .
وهذا الذي علقه البخاري قد أسنده الحافظ أبو يعلى الموصلي عن أيوب بن أبي تميمة قال: ضعف أنس [بن مالك] عن الصوم، فصنع جفنة من ثريد، فدعا ثلاثيِن مسكينًا فأطعمهم .
ورواه أيضا عبد بن حميد ,
ومما يلتحق بهذا المعنى: الحامل والمرضع، إذا خافتا على أنفسهما أو ولديهما، ففيهما خلاف كثير بين العلماء، فمنهم من قال: يفطران ويفديان ويقضيان. وقيل: يفديان فقط، ولا قضاء. وقيل: يجب القضاء بلا فدية. وقيل: يفطران، ولا فدية ولا قضاء. وقد بسطنا هذه المسألة مستقصاة في كتاب الصيام الذي أفردناه . ولله الحمد والمنة.

"شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْـزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (185)"
يمدح تعالى شهرَ الصيام من بين سائر الشهور، بأن اختاره من بينهن لإنـزال القرآن العظيم فيه، وكما اختصه بذلك، قد ورد الحديث بأنه الشهر الذي كانت الكتب الإلهية تنـزل فيه على الأنبياء.
عن واثلة بن الأسقع رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أنزلت صحف إبراهيم في أول ليلة من رمضان . وأنزلت التوراة لست مضين من رمضان ، والإنجيل لثلاث عشرة خلت من رمضان ، أنزل الله القرآن لأربع وعشرين خلت من رمضان
أشار الشيخ أحمد شاكر في المقدمة إلى صحته في عمدة التفسير, وقال الهيثمي في مجمع الزوائد فيه عمران بن داود القطان ضعفه يحيى ووثقه ابن حبان وقال أحمد‏‏ أرجو أن يكون صالح الحديث‏‏ وبقية رجاله ثقات

أما الصحف والتوراة والزبور والإنجيل -فنـزل كل منها على النبي الذي أنـزل عليه جملة واحدة، وأما القرآن فإنما نـزل جملة واحدة إلى بيت العزة من السماء الدنيا، وكان ذلك في شهر رمضان، في ليلة القدر منه، كما قال تعالى: إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ [القدر: 1]. وقال: إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ [الدخان: 3]، ثم نـزل بعدُ مفرّقًا بحسب الوقائع على رسول الله صلى الله عليه وسلم. 
هكذا روي من غير وجه، عن ابن عباس، كما قال إسرائيل، عن السّدي، عن محمد بن أبي المجالد عن مِقْسَم،عن ابن عباس أنه سأله عطية بن الأسود ، فقال : وقع في قلبي الشك : قول الله تعالى : { شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن } ، وقوله : { إنا أنزلناه في ليلة مباركة } ، وقوله : { إنا أنزلناه في ليلة القدر } وقد أنزل في شوال ، وفي ذي القعدة ، وفي ذي الحجة ، وفي المحرم ، وصفر ، وشهر ربيع ؟ فقال ابن عباس : إنه أنزل في رمضان ، في ليلة القدر وفي ليلة مباركة جملة واحدة ، ثم أنزل على مواقع النجوم ترتيلا في الشهور والأيام
               أشار الشيخ أحمد شاكر في المقدمة إلى صحته في عمدة التنفسير

وقوله: ( هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ ) هذا مدح للقرآن الذي أنـزله الله هدى لقلوب العباد ممن آمن به وصدقه واتبعه ( وَبَيِّنَاتٍ ) أي: ودلائل وحُجَج بينة واضحة جلية لمن فهمها وتدبَّرها دالة على صحة ما جاء به من الهدى المنافي للضلال، والرشد المخالف للغي، ومفرقًا بين الحق والباطل، والحلال، والحرام.
وقد روي عن بعض السلف أنه كَره أن يقال: إلا "شهر رمضان" ولا يقال: "رمضان"؛
ورَخَّص فيه ابن عباس وزيد بن ثابت.
وقد انتصر البخاري، رحمه الله، في كتابه لهذا فقال: "باب يقال رمضان" وساق أحاديث في ذلك منها: "من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه" ونحو ذلك.
وقوله: ( فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ) هذا إيجاب حَتْمٍ على من شهد استهلال الشهر -أي كان مقيما في البلد حين دخل شهر رمضان، وهو صحيح في بدنه -أن يصوم لا محالة. ونَسَخت هذه الآية الإباحة المتقدمة لمن كان صحيحًا مقيما أن يفطر ويفدي بإطعام مسكين عن كل يوم، كما تقدم بيانه. ولما حتَّم الصيام أعاد ذكر الرخصة للمريض وللمسافر في الإفطار، بشرط القضاء فقال: ( وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ) معناه: ومن كان به مرض في بدنه يَشُقّ عليه الصيام معه، أو يؤذيه أو كان على سفر أي في حال سفر - فله أن يفطر، فإذا أفطر فعليه بعدة ما أفطره في السفر من الأيام؛ ولهذا قال: ( يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ) أي: إنما رخَّصَ لكم في الفطر في حال المرض وفي السفر، مع تحتمه في حق المقيم الصحيح، تيسيرًا عليكم ورحمة بكم.

 

وهاهنا مسائل تتعلق بهذه الآية:
إحداها: أنه قد ذهب طائفة من السلف إلى أن من كان مقيما في أول الشهر ثم سافر في أثنائه، فليس له الإفطار بعذر السفر والحالة هذه، وهذا القول غريب نقله أبو محمد بن حزم في كتابه المُحَلى، عن جماعة من الصحابة والتابعين. وفيما حكاه عنهم نظر، والله أعلم. فإنه قد ثبتت السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه خرَجَ في شهر رمضان لغزوة الفتح، فسار حتى بلغ الكَديد، ثم أفطر، وأمر الناس بالفطر. أخرجه صاحبا الصحيح .


الثانية: ذهب آخرون من الصحابة والتابعين إلى وجوب الإفطار في السفر، لقوله: ( فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ) والصحيح قول الجمهور، أن الأمر في ذلك على التخيير، وليس بحَتْم؛ لأنهم كانوا يخرجون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في شهر رمضان. قال: "فَمنا الصائم ومنا المفطر، فلم يعب الصائمُ على المفطر، ولا المفطر على الصائم ".
الحديث:
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : كُنّا نُسافِرُ مع النَّبيِّ ﷺ في رَمَضانَ، فمِنّا الصّائِمُ، ومِنّا المُفطِرُ، فلا يَعيبُ الصّائِمُ على المُفطِرِ، ولا المُفطِرُ على الصّائِمِ. 
 أخرجه مسلم (١١١٦)، والترمذي (٧١٣)، والنسائي (٢٣٠٩) باختلاف يسير، وأحمد (١١٤٧١) واللفظ له  

فلو كان الإفطار هو الواجب لأنكر عليهم الصيام، بل الذي ثبت من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان في مثل هذه الحالة صائمًا، لما ثبت في الصحيحين عن أبي الدرداء [قال] خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم [في شهر رمضان] في حَرٍّ شديد، حتى إن كان أحدنا ليضع يده على رأسه [من شدة الحر] وما فينا صائم إلا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وعبد الله بن رواحة .


الثالثة: قالت طائفة منهم الشافعي: الصيام في السفر أفضل من الإفطار، لفعل النبي صلى الله عليه وسلم كما تقدم، وقالت طائفة: بل الإفطار أفضل، أخذا بالرخصة،
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : أنه سئل عن الصوم في السفر ، فقال : من أفطر فحسن ، ومن صام فلا جناح عليه
 أشار الشيخ أحمد شاكر في المقدمة إلى صحته في عمدة التفسير

وقال في حديث آخر:
عن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما : مرَّ النبيُّ صلّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ برجلٍ في سفرٍ في ظلِّ شجرةٍ يُرشُّ عليه الماءُ فقال ما بالُ هذا قالوا صائمٌ يا رسولَ اللهِ قال : وزاد , عليكم برُخصةِ اللهِ التي رخَّص لكم فاقبَلوها
قال الإمام الألباني في إرواء الغليل  هذه الزيادة إسنادها صحيح . أخرجه البخاري (١٩٤٦)، ومسلم (١١١٥)، وأبو داود (٢٤٠٧)، وأحمد (١٤٤٢٦) بنحوه، والنسائي (٢٢٥٨) مطولاً باختلاف يسير.

وقالت طائفة: هما سواء لحديث عائشة: أن حَمْزة بن عمرو الأسلمي قال: يا رسول الله، إني كثير الصيام، أفأصوم في السفر؟ فقال: "إن شئت فصم، وإن شئت فأفطر". وهو في الصحيحين . وقيل: إن شق الصيام فالإفطار أفضل لحديث جابر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلا قد ظُلِّلَ عليه، فقال: "ما هذا؟ " قالوا: صائم، فقال: " ليس من البر الصيام في السفر". أخرجاه . فأما إن رغب عن السنة، ورأى أن الفطر مكروه إليه، فهذا يتعين عليه الإفطار، ويحرم عليه الصيام، والحالة هذه، لما جاء في مسند الإمام أحمد وغيره، عن ابن عمر وجابر، وغيرهما: من لم يقبل رُخْصَةَ الله كان عليه من الإثم مثل جبال عرفة .
الحديث:
عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :منْ لمْ يقبلْ رخصةَ اللهِ كانَ عليهِ منَ الإثمِ مثلُ جبالِ عرفةَ
أحمد شاكر في عمدة التفسير[أشار في المقدمة إلى صحته]
البوصيري في إتحاف الخيرة المهرة ٣‏/١١٤ قال  سنده فيه ابن لهيعة
وقال المنذري في الترغيب والترهيب ١‏/١٤٧ [إسناده صحيح أو حسن أو ما قاربهما]  •  أخرجه أحمد (٥٣٩٢)، وعبد بن حميد في «المسند» (٨٣٩)، والطبراني (١٣/٣٢٤) (١٤١٢٤)
وقال ابن تيمية في شرح العمدة (الصيام) ١‏/٢٢٢  •  في إسناده ابن لهيعة
وقال الألباني في  السلسلة الضعيفة  منكر 


الرابعة: القضاء، هل يجب متتابعًا أو يجوز فيه التفريق؟ فيه قولان: أحدهما: أنه يجب التتابع، لأن القضاء يحكي الأداء. والثاني: لا يجب التتابع، بل إن شاء فَرّق، وإن شاء تابع. وهذا قول جُمهور السلف والخلف، وعليه ثبتت الدلائل ؛ لأن التتابع إنما وجب في الشهر لضرورة أدائه في الشهر، فأما بعد انقضاء رمضان فالمراد صيام أيام عدَّةَ ما أفطر. ولهذا قال تعالى: ( فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ) ثم قال: ( يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ) وروى الإمام أحمد عن أبي قتادة، عن الأعرابي الذي سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول
إن خير دينكم أيسره ، إن خير دينكم أيسره
أحمد شاكر في عمدة التفسير [أشار في المقدمة إلى صحته]
وقال الألباني في صحيح الأدب المفرد ٢٦٠ حسن
وقال البوصيري في إتحاف الخيرة المهرة ١‏/١١٢ صحيح 

عن عروة الفقيمي قال :كنا ننتظر النبي صلى الله عليه وسلم فخرج رجلا يقطر رأسه من وضوء أو غسل ، فصلى ، فلما قضى الصلاة جعل الناس يسألونه : علينا حرج في كذا ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن دين الله في يسر . ثلاثا يقولها
أحمد شاكر في عمدة التفسير قال إسناده صحيح
وقال الهيثمي في مجمع الزوائد ١‏/٦٧ [ فيه ] غاضرة لم يرو عنه غير عاصم هكذا ذكره المزي

وروى الإمام أحمد أيضا عن أنس بن مالك يقول: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يسروا، ولا تعسروا، وسكِّنُوا ولا تُنَفِّروا". أخرجاه في الصحيحين . وفي الصحيحين أيضا: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لمعاذ وأبي موسى حين بعثهما إلى اليمن: "بشرا ولا تنفرا، ويسرا ولا تعسرا، وتطاوعا ولا تختلفا". وفي السنن والمسانيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "بعثت بالحنيفيَّة السمحة" .
عن حبيب بن أبي ثابت , وصححه الإمام الألباني في السلسلة الصحيحة ، 6 / 125 ]

عن محجن بن الأدرع رضي الله عنه : أنَّ رسولَ اللهِ صلّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ رأى رجلًا يصلِّي فَتراءاهُ بصرَهُ ساعةً، فقالَ: أتراهُ يصلِّي صادقًا؟ قال: قلتُ: يا رسولَ اللهِ، هذا أكثَرُ أهلِ المدينةِ صلاةً، فقالَ رسولُ اللهِ صلّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: لا تُسمِعْهُ فتُهلكَهُ. وقالَ: إنَّ اللَّهَ إنَّما أرادَ بهذِه الأمَّة اليُسرَ، ولَم يُردْ بهمُ العُسرَ. إنَّ خيرَ دينِكم أَيسرُهُ. مرَّتينِ
قال أحمد شاكر في عمدة التفسير  إسناده صحيح

ومعنى قوله: ( يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ ) أي: إنما أرْخَصَ لكم في الإفطار للمرض والسفر ونحوهما من الأعذار لإرادته بكم اليسر، وإنما أمركم بالقضاء لتكملوا عدّة شهركم.

 

وقوله: ( وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ ) أي: ولتذكروا الله عند انقضاء عبادتكم، كما قال: فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا [البقرة: 200]

 

وقال: فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ [ النساء: 103]، فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [الجمعة: 10]

 

وقال: وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ * وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ [ق: 39، 40]؛ ولهذا جاءت السنة باستحباب التسبيح، والتحميد والتكبير بعد الصلوات المكتوبات.
وقال ابن عباس: ما كنا نعرف انقضاء صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بالتكبير

 

وقوله: ( وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) أي: إذا قمتم بما أمركم الله من طاعته بأداء فرائضه، وترك محارمه، وحفظ حدوده، فلعلكم أن تكونوا من الشاكرين بذلك.

و قال ابن القيم_رحمه الله تعالى_ في تفسير هذه الآيات في كتاب بدائع التفسير:
  
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183) أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (184)

فرق الشارع بين أيام رمضان وبين أيام القضاء فجعل أيام رمضان محدودة الطرفين لا يجوز تقدمها ولا تأخرها وأطلق أيام قضائه فقال سبحانه كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون أياما معدودات فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر فأطلق العدة ولم يوقتها وهذا يدل على أنها تجزيء في أي أيام كانت ولم يجيء نص عن الله ولا عن رسوله ولا إجماع على تقييدها بأيام لا تجزيء في غيرها
وليس في الباب إلا حديث عائشة رضي الله عنها كان يكون على الصوم من رمضان فلا أقضيه إلا في شعبان من الشغل برسول الله ومعلوم أن هذا ليس صريحا في التوقيت بما بين الرمضانين كتوقيت أيام رمضان بما بين الهلالين فاعتبار أحدهما بالآخر ممتنع وجمع بين ما فرق الله بينهما فإنه جعل أيام رمضان محدودة بحد لا تتقدم عنه ولا تتأخر وأطلق أيام القضاء وأكد إطلاقها بقوله أخر وأفتى من أفتى من الصحابة بالإطعام لمن أخرها إلى رمضان آخر جبرا لزيادة التأخير عن المدة التي بين الرمضانين ولا تخرج بذلك عن كونها قضاء بل هي قضاء وإن فعلت بعد رمضان آخر فحكمها في القضاء قبل رمضان وبعده واحد بخلاف أيام رمضان
يوضح هذا انه لو أفطر يوما من أيام رمضان عمدا بغير عذر لم يتمكن أن يقيم مقامه يوما آخر مثله ألبتة ولو أفطر يوما من أيام القضاء قام اليوم الذي بعد مقامه
وسر الفرق أن المعذور لم يتعين في حقه أيام القضاء بل هو مخير فيها وأي يوم صامه قام مقام الآخر وأما غير المعذور فأيام الوجوب متعينة في حقه لا يقوم غيرها مقامها. قول الله تعالى : ( وعلى الذين يطيقونه فدية)الآية ،اختلف السلف في هذه الآية على أربعة أقوال : أحدها: أنها ليست بمنسوخة. قاله ابن عباس. الثاني: أنها منسوخة. كما قاله سلمة والجمهور. الثالث: أنها مخصوصة، خصَّ منها القادر الذي لا عُذر له، وبقيت متناولة للمرضع والحامل. الرابع: أنّ بعضها منسوخ وبعضها محكم.

انتهى النقل من كتاب بدائع التفسير الجامع لما فسره الإمام ابن قيم الجوزية.



التطبيق العملي لهذه الآيات :

1- هذا نداء من النداءات في القرآن الكريم للمؤمنين الذي وجب أن ننصت لننفذ ما أمر به سبحانه , فهنا أمر بالصيام وهو الإمساك عن الطعام والشراب والجماع بنية خالصة لله تعالى " إيمانا واحتسابا "

 

2- أن نتذكر وندرك نعمة الله تعالى علينا بأن فرض علينا الصيام كما فرضه على الذين من قبلنا فهو مصلحة للخلق في كل زمان ومكان .
وأن نتذكر أثناء الصيام أن هذا من منافستنا في الخير لغيرنا من الأمم وهو من الأمور المستطاعة فكما فعلوها نفعلها فلا يسبقونا لهذا الخير .بل نجتهد لنؤديه أكمل مما أدوه . "...وَلَكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَآ آتَاكُم فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ} [(48) سورة المائدة] الآية.

 

3- أن نسأله سبحانه وتعالى ونحن صائمون أن يبلغنا درجة المتقين فننتهي عما نهى الله عنه ونعمل بأوامره .فنعمل بالفرائض وننتهي عن المحرمات كالغيبة والنميمة والحسد والتباغض والغش للمسلمين وما شابه .

 

4- تذكر الأجر والثواب عند ترك الطعام والشراب والجماع وسائر المفطرات وهذا من التقوى.

 

5- تدريب النفس على مراقبة الله تعالى أثناء الصيام فتترك كل ما تحب وتهوى من أجل الله ولنظر الله إليها , هي تحب مشاهدة الافلام , المسلسلات , الغناء , النوم الكثير على حساب العبادات , كثرة الطعام , الكلام الكثير , إن كانت امرأة تحب التبرج , التزين خارج البيت بشتى ألوان الزينة والعطور , نتركها لنظر الله تعالى إلينا فنستحي من نظره إلينا وبالتالي تزكو نفوسنا ونطهرها من الأخلاق الذميمة .

 

6- لنتذكر أن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم وبالصوم نضيق عليه فتقل معاصينا وتكثر طاعاتنا لله تعالى .

 

7- عند الشعور بألم الجوع نتذكر الفقراء والمساكين وجوعهم فنتفقدهم ونسارع للإنفاق عليهم مما نملك  .

 

8- عندما نقرأ : أياما معدودات : لنعلم أنها أيام قليلة مستطاعة , ومن ثم فإن الله عز وجل رخص لمن كان مريضا أو مسافرا لما في ذلك من المشقة عليه أن يفطر ويصوم أياما غيرها ولم يحدد في الآية أن تكون بنفس الطول أو الحر وما شابه فجاز صوم أيام أخر بعددها , وبذلك لا تفوت المصلحة على من شق عليه الصيام في تلك الأيام.

 

9- ( وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين ) هذا في بداية فرضية الصيام وبداية كانوا يصومون من كل شهر ثلاثة أيام , وكان شاقا عليهم لم يعتادوه فرخص لهم الشارع الحكيم أن من طاق الصوم خُيِّر بين أن يصوم أو يطعم عن كل يوم يفطره مسكينا والصوم خير له .

 

10- ثم بعد ذك جعل الصوم فرضا لازما على من يطيق ومن لا يطيق , فمن لا يطيق يقضيه في ايام أخر ومن لم يستطع لمشقة بالغة أفطر وأطعم عن كل يوم مسكينا , كالشيخ الهرم . ويلحق بذلك الحامل والمرضع إذا خافتا على نفسيهما أو ولديهما ففيهما خلاف كبير بين العلماء .

 

11- شهر رمضان شهر عظيم لنزول القرآن الكريم فيه الذي فيه الهداية لمصالحنا الدينية والدنيوية والذي بواسطته ميزنا الحق من الباطل والهدى من الضلال. فشهر هذا فضله وفيه أحسن الله إلينا بإنزال القرآن الكريم الذي لولاه لتخبطنا بالجاهلية والضلال فحقيق أن يكون موسم للصوم وللعبادات لشكر الله على تلك النعمة العظيمة. وكذلك ورد في الحديث الشريف أن في رمضان أنزلت جميع الكتب جملة واحدة , وأما القرآن الكريم فأنزل جملة واحدة إلى بيت العزة في السماء الدنيا في ليلة القدر من رمضان .

 

12- فمن دخل عليه الشهر وهو صحيح قادر حاضر تعين عليه الصوم فلا ينتقل إلى الاطعام وهو قادر كما كان مرخصا بداية .

 

13- ولما نسخ الله تعالى الآيات الأولى بقوله ( فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) ظلت الرخصة للمريض والمسافر حتى لا يتوهم متوهم أن الرخصة قد نسخت أيضا وهذا إن دل فإنما يدل على عظيم إحسانه سبحانه وتعالى فهو يريد بنا اليسر ولا يريد بنا العسر.

 

14- فمن قوله تعالى: ُيرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ"  نفهم أن كل ما طلبه الله تعالى من عباده في غاية السهولة لا مشقة فيه . فإن حصلت المشقة إما أن يخفف على العبد أو يسقط عنه وهذا كثير في الشرع ولله الفضل والمنة .

 

15- ولتكملوا العدة : حتى لا يتوهم أحدنا أنه يجزئه صيام بعضه فأمرنا بإكمال عدته.

 

16- ثم أتبع ذلك بيان شكره لما أعاننا على إتمامه وتوفيقه وتسهيله بالتكبيرعند انقضائه شكرا له سبحانه, ويدخل في هذا التكبير عند رؤية هلال شوال إلى الفراغ من صلاة العيد.

 

17- أيام القضاء لمن افطر بعذر غير مقيدة بل متى شاء صامها  متفرقة أو متتابعة والتتابع أفضل إن استطاع على أن لا يدخل رمضان آخر وهو لم يقض بعد فإن فرط فعليه إطعام مع القضاء كما أفتى به جماعة من السلف , وأما من أفطر بغير عذر فلا يمكن أن يقوم مقام ذلك اليوم الذي أفطر من رمضان يوما آخر لقوله تعالى "فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر" .
 والله تعالى أعلى وأعلم

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

قطعة فهم مقروء _ صف ثاني

امتحان فهم مقروء ----- للصف الثالث

أسئلة في سورة الغاشية